تعني المدرسية في أوضح دلالاتها أن تتشكل داخل اتجاه أدبي معين منازع ومدارس فنية تستمد الأسس والمبادئ الكبرى فنيا وفكريا من الاتجاه الأم، لكنها تمتد، كل في حدود طاقته وخبرته وحساسيته الجمالية، لتشكل تيارات أدبية، والمدرسية بهذا المعنى تعني مؤسسة معرفية ونقدية وجمالية، تنميها وتقودها روافد عديدة، منها البيئة والمحيط الاجتماعي والتكوين الثقافي والتشكيل النفسي والذوق الفني واحتياجات المتلقي.
ولا يجادل أحد في دور تلك الروافد، فللبيئة تأثيرها القوي على شخصية الأديب، ولم يكن النقد العربي القديم مجافيا للواقع حين صاغ مقولة في هذا الإطار مفادها أن الشاعر ابن بيئته، فبيئة الصحراء غير بيئة السواحل، والمحيط الاجتماعي في قلب الجزيرة العربية غيره في شمال إفريقيا، والتكوين الثقافي إن لم يتباين، فهو يتنوع ويتعدد بتنوع المؤسسات الثقافية، أما التشكيل النفسي فللأسرة والمدرسة دور كبير في تنميته وفق اتجاه معين، ولا شك أن مقروء المرء ومعارفه تساهم إلى حد كبير، في تشكيل ذوقه الفني، كما أن احتياجات الجمهور وتطلعاته تمارس دورها في التأثير في أولويات الأديب فنيا ومضمونيا.
والهدف من صياغة هذه الملحوظات أن تتحول إلى قاعدة مجمع عليها في ساحة التنظير للأدب الإسلامي، بالمعنى التقريبي للاجماع لدى الأصوليين، وأن يتراجع بموجب احكامها خطاب آخذ في الانتشار والهيمنة والتأثير داخل بعض المؤسسات المعنية بالشأن الأدبي الإسلامي والمجلات المختصة، خطاب يستنكر كل مظهر من مظاهر التنويع والتغيير في التشكيل الأدبي والفني والدلالي فيما يصدر عن الأدباء داخل الدائرة الإسلامية، من دواوين وقصص وروايات..، باعتبار أن ذلك التنويع والتغيير مظنة الوقوع في تمييع بناء الأدب الإسلامي وجعله كيانا هلاميا هجين الهوية، فاقدا سمات الأصالة والتميز والذاتية الإسلامية النقية.
إن الوضع النقدي داخل الدائرة الإسلامية محتاج إلى الوقوف بعمق نظري ووعي تأصيلي على المعطيات الآتية:
- التنوع والاختلاف سنة كونية واجتماعية، وأصل الأصول في ذلك قوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم..} (الروم: 22)، فأن يجعل الاختلاف هنا آية من آيات الله فهو دعوة إلى أن ينبه إليه ويبرز جليا بين يدي الإنسانية، فهو في كون الحياة الإنسانية مثل الشمس والقمر والأرض والجبال في كون الطبيعة كلها آيات بينات.
واختلاف الألسن هو من باب أولى اختلاف النفسيات والأذواق والمشاعر والأحاسيس وطرق تمثلها وأساليب التعبير عنها، لأن الألسن لا تعبر عن الفراغ بالفراغ، وإنما تعبر عن مكنون كامن ببيان كائن.
وهذا يعني أن تحتل المشاعر والوجدان أوسع مجال في تحديد هوية الإنسان، فلا تحدد هويته بعلمه وعقله، وإنما بمشاعره ووجدانه، يقول د.ياسر العيتي: «إن مشاعرنا هي هويتنا، فالإنسان يتميز عن غيره بمشاعره، وبمقدار ما يذلل الإنسان مشاعره وينميها ويهتم بها بمقدار ما يشعر بذاته واستقلاله» (1).
ومن ثم فإن مراعاة التنوع والاختلاف ورعايتهما سبيلان إلى احتلال مواقع الريادة والتأثير، والأمل معقود على البرامج التربوية والمقررات الدراسية لإبراز قيمة الاختلاف والتنوع لا الفرقة والتصدع في الأبعاد الحياتية والجمالية.
إن الدارس ليرتاح إلى ما انتهى إليه كبار النقاد في الدائرة الإسلامية من تعين سلوك طريق الاختبار والتجريب والإضافة النوعية باعتبارها مسالك وتجليات لفلسفة رعاية التنوع والاختلاف وفق مقاصدها المنتجة. يقول د.عماد الدين خليل: «ما من شك أننا مازلنا في مرحلة التكوين الذي ينطوي بالضرورة على الاختبار والتجريب، والبحث الجاد عن الإضافات النوعية التي تزيد أدبنا أصالة وتميزا... وبالتالي وبقدر تعلق الأمر بالخصائص المذهبية فإن على أدبائنا الإسلاميين أن يجربوا ويكتشفوا» (2).
مع التذكير بأن الاختبار والتجريب والإضافات النوعية - تقوية بناء الأدب الإسلامي يستدعي التمثل لا التقليد.
والمقصود بالتمثل الاستيعاب الدقيق للقواعد التي يرسمها رواد الأدب الإسلامي، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، استنادا إلى اختمار التجربة لديهم، وإدراكهم لمقومات الإبداع الأدبي وضوابطه الشرعية والقيمية، بشرط ألا يكون ذلك التمثل محاكاة صرفة ونقلا آليا فهو حينئذ، يتحول إلى تقليد.
وإذا كان التقليد بصفة عامة، مذموما في البيئة العقائدية والدينية إسلاميا فإنه أكثر ذما في البيئة الإبداعية القائمة على الذاتية والتجربة الشعورية الفردية.
إن الخطاب الأدبي الإسلامي المعاصر مرهون في قطاع عريض منه بمقولة: «الاتباع ضمان سلامة البناء»، بينما الأصل أن التمثل لا الاتباع هو ضامن سلامة بناء صرح الأدب الإسلامي، لأن التمثل يعطي الأصالة إمكانية البروز والنمو والاختمار بوضعها في سياق الحوار المستمر مع قيم التمثل، بينما يكون الاتباع طريق التقليد والجمود، ولم يثبت في نص واقع أن أمة ارتقت بفعل التقليد والجمود أو أنها ارتكست بفعل التجديد وتنمية الأصالة.
- الوصاية على الأدباء موقف سلبي قائم على توهم الخوف على مصير الأدب الإٍسلامي.
يشعر العديد من شباب الأدب الإسلامي أن هناك وصاية شبه خفية تفرض عليهم باسم رعاية الوحدة العقائدية ونقاء الالتزام الأدبي، وأن هناك رقابة من مؤسسات أدبية تعنى بالأدب الإٍسلامي، تتمثل في قبول إنتاج من يساير الأنماط الموجودة وإقصاء أو تهميش كل إنتاج تلمس فيه مظاهر الخروج عن الأنماط المألوفة، صياغة وإيقاعا ودلالة، وقد انتهت هذه المراقبة العرفية إن صح التعبير إلى أوضاع سلبية من مثل هيمنة نمط مخصوص في الكتابة الأدبية، ونشر الأعمال المساوقة لإيديولوجية الثبات على الثوابت والخوف على مصير الأدب الإسلامي من أن تميع ذاته وتتلاشى في أجواء الإبداعية والتجديد والتغيير، وانكفاء الطاقات الشابة على نفسها مما يؤول بها إلى الجمود والضياع والموت، أو التمرد غير الموزون والكفر بمختلف القيود والقوالب والمؤسسات.
- الأصل في الأشكال الإباحة.
صراع مرير ونقاش طويل يروج في ساحة الأدب الإسلامي حول رتبة الأشكال الفنية في سلمية الجواز والإباحة والحرمة، وغلب على رواده استجابة لثقافة سد الذرائع والأخذ بالأحوط، توهما لأمن أدبي في سياق تتفاعل فيه الثقافات والقيم والتجارب سلوك الإنكار على من أخذ بالشعرالحر أو ابتكر أساليب لم ينزل التراث بها من سلطان.
وتحرير القول في هذه الإشكالية يقتضي التذكير بالآتي:
- الشكل الخليلي كان هو الإمكانية الوحيدة المتاحة في العصر الإسلامي الأول.
- الأشكال تتطور بتطور الثقافات والأذواق الأدبية والاتجاهات النقدية ومن ثم فمن المباح للأديب أن يختار الشكل الذي يراه ملائما لأن يصب فيه تجاربه الإبداعية ولم يكن الإسلام ليقف في وجه اجتهاد بشري ما في حقل هو أصلا من إنتاج بشر «يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق». - احتضان الإسلام للشكل الفني القديم تمثل فني وليس دينا متبعا
منذ انتقادات الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله- للشعر الحديث (الحر) وكلام د.عمر فروخ في هذه «البدعة» الأدبية وانتهاء إلى مقالات ودراسات لنقاد الأدب الإسلامي مرورا باللقاءات والندوات والمؤتمرات يزداد الإحساس بأن رواد الأدب الإسلامي يعتقدون في وجود علاقة ما بين الإسلام والشكل الخليلي في الشعر، علاقة ما تصل إلى درجة التبني والدفاع.
وهذا ما يفسر نفورهم من الشكل الشعري الحر أوالمنثور، أوما شابهه فهو، عندهم «البدعة» التي يجب محاربتها ويتم استنفار أقلام النقد للربط بين هاته «البدعة» والعلمانية والحداثة، والاستعمار الثقافي.
بينما الأصل أن يفك هذا الارتباط القدسي بين الإسلام والشكل الخليلي وذلك لأن الشكل الخليلي سابق تاريخيا على الإسلام، ولم يكن للدين فضل في تأسيسه كي يكون حارسا له ومدافعا، وما استناد شعراء الإسلام عليه إلا لأنه النمط الوحيد الذي أتاحه لهم واقع الإبداع الأدبي في عصرهم، فهم قد تمثلوه، فنيا لا عقديا، وليس في مصلحة الدين أو الشعر الخليلي أن يُتعسف في تأسيس «قران» ديني بينهما.
وينتج عن هذا حقيقة أن موقف الإسلام من الإيقاع العروضي القديم هو موقف التمثل لا التدين، وإذا كان تغير الأعراف يقتضي تغير الأحكام والفتاوى فمن باب أولى أن تتغير الأعراف الفنية، إذ «العرف محكم»، و«الثابت بالعرف كالثابت بالنص».
يقول المرحوم نجيب الكيلاني: «الأدب الإسلامي ليس مجانبا للقيم الفنية الجمالية، فهو يحرص عليها أشد الحرص، بل ينميها ويضيف إبداعاته إليها، والتراث الجمالي العالمي ملكية شائعة كالدين والفلسفة والعلوم لا يحتكرها شعب دون آخر» (3)، ويضيف مؤكدا لخصائص الانفتاح الفني والتجديد التشكيلي: «والأدب الإسلامي ليس قواعد جامدة أو صيغا معزولة عن الحياة والواقع، أو خطبا وعظية تثقلها النصوص والأحكام ولكنه صور جميلة نامية متطورة، تتزين بما يزيدها جمالا وجلالا» (4). وهذا يقتضي التحذير من بعض الأحكام والمواقف من مثل ما سيرد في القاعدة الموالية في الجزء الثاني من الدراسة.